الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.قال الألوسي: وذكر المؤمنين لأنهم العمدة فيهم أو بمضمر هو حال من الفاحشة أي كائنة في حق المؤمنين وفي شأنهم والمراد بهم المحصنون والمحصنات كما روى عن ابن عباس {لَهُمْ} بسبب ذلك {عَذَابٌ أَلِيمٌ في الدنيا} مما يصيبه من البلاء كالشلل والعمى وفي يَخَافُونَ الآخرة من عذاب النار ونحوه، وترتب ذلك على المحبة ظاهر على ما نقل عن الكرماني من أن أعمال القلب السيئة كالحقد والحسد ومحبة شيوع الفاحشة يؤاخذ العبد إذا وطن نفسه عليها، ويعلم من الآية على أتم وجه سوء حال من نزلت الآية فيهم كابن أبي ومن وافقه قلبًا وقالبًا وأن لهم الحظ الأوفر من العذابين حيث أحبوا الشيوع وأشاعوا. وقال بعضهم: المراد من محبة الشيوع الإشاعة بقرينة ترتب العذاب عليها فإنه لا يترتب إلا على الإشاعة دون المحبة التي لا اختيار فيها، وإن سلم أن المراد بها محبة تدخل تحت الاختيار وهي مما يترتب عليها العذاب قلنا: إن ذلك هو العذاب الأخروي دون العذاب الدنيوي مثل الحد، وقد فسر ابن عباس وابن جبير العذاب الأليم في الدنيا هنا بالحد وهو لا يترتب على المحبة مطلقًا بالاتفاق، ومن هنا قيل أيضًا: إن ذكر المحبة من قبيل الاكتفاء عن ذكر الشيء وهو الإشاعة بذكر مقتضيه تنبيهًا على قوة المقتضى، وقيل: إن الكلام على التضمين أي يشيعون الفاحشة مبين شيوعها لأن كلا معنى المحبة والإشاعة مقصودان. واستشكل تفسير العذاب الأليم في الدنيا بالحد بأنه لا يضم إليه العذاب الأليم في الآخرة لأن الحدود مكفرة. وأجيب بأن حكم الآية مخصوص بمن أشاع ذلك في حق أم المؤمنين، وقيل: الحد لمن نقل الإفك من المسلمين والعذاب الأخروي لأبي عذرته ابن أبي والموصول عام لهما، على أن في كون لحدود مطلقًا مكفرة خلافًا فبعضهم قال به فيما عدا الردة وبعضهم أنكره وبعضهم توقف فيه لحديث أبي هريرة أنه عليه الصلاة والسلام قال: «لا أدري الحدود كفارات لأهلها أم لا» ولعل الأنسب بمساق النظم الكريم من تقبيح الخائضين في الإفك المشيعين له هو ما ذكرناه أولًا، والمراد بالموصول إمامهم على أن يكون للعهد الخارجي كما روى عن مجاهد وابن زيد؛ والتعبير بالمضارع في الصلة للإشارة إلى زيادة تقبيحهم بأنه قد صارت محبتهم لشيوع الفاحشة عادة مستمرة، وأما ما يعمهم وغيرهم من كل من يتصف بمضمون الصلة على إرادة الجنس ويدخل أولئك المشيعون دخولًا أوليًا كما قيل: {والله يَعْلَمُ} جميع الأمور التي من جملتها ما في الضمائر من المحبة المذكورة وكذا وجه الحكمة في تغليظ الوعيد {وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} ما يعلمه سبحانه وتعالى. والجملة اعتراض تذييلي جيء به تقريرًا لثبوت العذاب له وتعليلًا له، قيل: المعنى والله يعلم ما في ضمائرهم فيعاقبهم عليه في الآخرة وأنتم لا تعلمون ذلك بل تعلمون ما يظهر لكم من أقوالهم فعاقبوا عليه في الدنيا. {وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ}. الخطاب على ما أخرج الطبراني عن ابن عباس لمسطح وحسان وحمنة أو لمن عدا ابن أبي وأضرابه من المنافقين الخائضين، وهذا تكرير للمنة بترك المعاجلة بالعقاب للتنبيه على كمال عظم الجريرة وقوله سبحانه وتعالى: {وَأَنَّ الله رَءوفٌ رَّحِيمٌ} عطف على {فَضَّلَ الله} وإظهار الاسم الجليل لتربية المهابة والأشعار باستتباع صفة الألوهية للرأفة والرحمة، وتغيير سبكه وتصديره بحرف التحقيق لما أن المراد بيان اتصافه تعالى في ذاته بهاتين الصفتين الجليلتين على الدوام والاستمرار لا بيان حدوث تعلقهما بهم كما أنه المراد بالمعطوف عليه؟ وجواب {لَوْلاَ} محذوف كما مر. وهذه نظير الآية المارة في آخر حديث اللعان إلا أن في التعقيب بالرؤوف الرحيم بدل {التواب الحكيم} [النور: 10] هنالك ما يؤذن بأن الذنب في هذا أعظم وكأنه لا يرتفع إلا بمحض رأفته تعالى وهو أعظم من أن يرتفع بالتوبة كما روى عن ابن عباس من خاض في حديث الإفك وتاب لم تقبل توبته والغرض التغليظ فلا تغفل. اهـ. .قال ابن عاشور: لما حذر الله المؤمنين من العود إلى مثل ما خاضوا به من الإفك على جميع أزمنة المستقبل أعقب تحذيرهم بالوعيد على ما عسى أن يصدر منهم في المستقبل بالوعيد على محبة شيوع الفاحشة في المؤمنين؛ فالجملة استئناف ابتدائي، واسم الموصول يعم كل من يتصف بمضمون الصلة فيعم المؤمنين والمنافقين والمشركين، فهو تحذير للمؤمنين وإخبار عن المنافقين والمشركين. وجُعل الوعيد على المحبة لشيوع الفاحشة في المؤمنين تنبيهًا على أن محبة ذلك تستحق العقوبة لأن محبة ذلك دالة على خبث النية نحو المؤمنين. ومن شأن تلك الطوية أن لا يلبث صاحبها إلا يسيرًا حتى يصدر عنه ما هو محب له أو يُسَر بصدور ذلك من غيره، فالمحبة هنا كناية عن التهيؤ لإبراز ما يحب وقوعه. وجيء بصيغة الفعل المضارع للدلالة على الاستمرار. وأصل الكناية أن تجمع بين المعنى الصريح ولازمه فلا جرم أن ينشأ عن تلك المحبة عذاب الدنيا وهو حد القذف وعذاب الآخرة وهو أظهر لأنه مما تستحقه النوايا الخبيثة. وتلك المحبة شيء غير الهمّ بالسيئة وغير حديث النفس لأنهما خاطران يمكن أن ينكف عنهما صاحبهما، وأما المحبة المستمرة فهي رغبة في حصول المحبوب. وهذا نظير الكناية في قوله تعالى: {ولا يحض على طعام المسكين} [الماعون: 3] كناية عن انتفاء وقوع طعام المسكين. فالوعيد هنا على محبة وقوع ذلك في المستقبل كما هو مقتضى قوله: {أن تشيع} لأن {أن} تخلص المضارع للمستقبل. وأما المحبة الماضية فقد عفا الله عنها بقوله: {ولولا فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا والآخرة لمسكم فيما أفضتم فيه عذاب عظيم} [النور: 14]. ومعنى: {أن تشيع الفاحشة} أن يشيع خبرها، لأن الشيوع من صفات الأخبار والأحاديث كالفشو وهو: اشتهار التحدث بها. فتعين تقدير مضاف، أي أن يشيع خبرها إذ الفاحشة هي الفعلة البالغة حدًا عظيمًا في الشناعة. وشاع إطلاق الفاحشة على الزنى ونحوه وتقدم في قوله تعالى: {واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم} في سورة النساء (15). وتقدم ذكر الفاحشة بمعنى الأمر المنكر في قوله: {وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا} في سورة الأعراف (28). وتقدم الفحشاء في قوله تعالى: {إنما يأمركم بالسوء والفحشاء} في سورة البقرة (169). ومن أدب هذه الآية أن شأن المؤمن أن لا يحب لإخوانه المؤمنين إلا ما يحب لنفسه، فكما أنه لا يحب أن يشيع عن نفسه خبر سوء كذلك يجب عليه أن لا يحب إشاعة السوء عن إخوانه المؤمنين. ولشيوع أخبار الفواحش بين المؤمنين بالصدق أو بالكذب مفسدة أخلاقية فإن مما يزع الناس عن المفاسد تهيبهم وقوعها وتجهمهم وكراهتهم سوء سمعتها وذلك مما يصرف تفكيرهم عن تذكرها بله الإقدام عليها رويدًا رويدًا حتى تنسى وتنمحي صورها من النفوس، فإذا انتشر بين الأمة الحديث بوقوع شيء من الفواحش تذكرتها الخواطر وخف وقع خبرها على الأسماع فدب بذلك إلى النفوس التهاون بوقوعها وخفة وقعها على الأسماع فلا تلبث النفوس الخبيثة أن تقدم على اقترافها وبمقدار تكرر وقوعها وتكرر الحديث عنها تصير متداولة. هذا إلى ما في إشاعة الفاحشة من لحاق الأذى والضر بالناس ضرًا متفاوت المقدار على تفاوت الأخبار في الصدق والكذب. ولهذا ذيل هذا الأدب الجليل بقوله: {والله يعلم وأنتم لا تعلمون} أي يعلم ما في ذلك من المفاسد فيعظكم لتجتنبوا وأنتم لا تعلمون فتحسبون التحدث بذلك لا يترتب عليه ضر وهذا كقوله: {وتحسبونه هيّنًا وهو عند الله عظيم} [النور: 15]. {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (20)}. هذه ثالث مرة كرر فيها {ولولا فضل الله عليكم ورحمته} وحذف في الأول والثالث جواب {لولا} لتذهب النفس كل مذهب ممكن في تقديره بحسب المقام. وقد ذكر في المرة الأولى وصف الله بأنه تواب حكيم للمناسبة المتقدمة، وذكر هنا بأنه رؤوف رحيم، لأن هذا التنبيه الذي تضمنه التذييل فيه انتشال للأمة من اضطراب عظيم في أخلاقها وآدابها وانفصام عرى وحدتها فأنقذها من ذلك رأفة ورحمة لآحادها وجماعتها وحفظًا لأواصرها. وذكر وصف الرأفة والرحمة هنا لأنه قد تقدمه إنقاذه إياهم من سوء محبة أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا تلك المحبة التي انطوت عليها ضمائر المنافقين كان إنقاذ المؤمنين من التخلق بها رأفة بهم من العذاب ورحمة لهم بثواب المتاب. وهذه الآية هي منتهى الآيات العشر التي نزلت في أصحاب الإفك على عائشة رضي الله عنها، نزلت متتابعة على النبي صلى الله عليه وسلم وتلاها حين نزولها وهو في بيته. اهـ. .قال الشعراوي: {يُحِبُّونَ} [النور: 19] الحب عمل قلبي، والكلام عمل لساني، وترجمة عملية لما في القلب، فالمعنى: الذين يحبون هذا ولو لم يتكلَّموا به؛ لأن لهذه المسألة مراحل تبدأ بالحب وهو عمل القلب، ثم التحدث، ثم السماع دون إنكار. ولفظاعة هذه الجريمة ذكر الحق سبحانه المرحلة الأولى منها، وهي مجرد عمل القلب الذي لم يتحول إلى نزوع وعمل وكلام إذن: المسألة خطيرة. والبعض يظن أن إشاعة الفاحشة فضيحة للمتهم وحده، نعم هي للمتهم، لكن قد تنتهي بحياته، وقد تنتهي ببراءته، لكن المصيبة أنها ستكون أُسْوة سيئة في المجتمع. وهذا توجيه من الحق- سبحانه وتعالى- إلى قضية عامة وقاعدة يجب أن تُرَاعى، وهي: حين تسمع خبرًا يخدش الحياءَ أو يتناول الأعراض أو يخدش حكمًا من أحكام الله، فإياك أنْ تشيعه في الناس؛ لأن الإشاعة إيجاد أُسْوة سلوكية عند السامع لمن يريد أن يفعل، فيقول في نفسه: فلان فعل كذا، وفلان فعل كذا، ويتجرأ هو أيضًا على مثل هذا الفعل، لذلك توعد الله تعالى مَنْ يشيع الفاحشة وينشرها ويذيعها بين الناس {لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدنيا والآخرة} [النور: 19]. والحق- تبارك وتعالى- لم يعصم أحدًا من المعصية وعمل السيئة، لكن الأَسْوء من السيئة إشاعتها بين الناس، وقد تكون الإشاعة في حق رجل محترم مُهَابٍ في مجتمعه مسموع الكلمة وله مكانة، فإنْ سمعت في حَقِّه مَا لا يليق فلربما زهّدك ما سمعتَ في هذا الشخص، وزهَّدك في حسناته وإيجابياته فكأنك حرمتَ المجتمع من حسنات هذا الرجل. وهذه المسألة هي التعليل الذي يستر الله به غَيْب الخَلْق عن الخَلْق، إذن: سَتْر غيب الناس عن الناس نعمة كبيرة تُثري الخير في المجتمع وتُنميه، ويجعلك تتعامل مع الآخرين، وتنتفع بهم على عِلاَّتهم، وصدق الشاعر الذي قال: ثم يقول الحق سبحانه: {وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ}. انظر كم فضل من الله تعالى تفضّل به على عباده في هذه الحادثة، ففي كل مرحلة من مراحل هذه القضية يقول سبحانه: {وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} [النور: 20] وهذا دليل على أن ما حدث كان للمؤمنين نعمة وخير، وإنْ ظنوه غير ذلك. لكن أين جواب لولا؟ الجواب يُفهَم من السياق وتقديره: لَفُضحْتُم ولَهلكتم، وحصل لكم كذا وكذا، ولك أنْ تُقدِّره كما تشاء. وما منع عنكم هذا كله إلا فضل الله ورحمته. وفي موضع آخر يوضح الحق سبحانه منزلة هذا الفضل: {قُلْ بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58]. فالحق- سبحانه وتعالى- شرع منهجًا ويحب مَنْ يعمل به، لكن فرحة العبد لا تتم بمجرد العمل، وإنما بفضل الله ورحمته في تقبُّل هذا العمل. إذن: ففضْل الله هو القاسم المشترك في كل تقصير من الخَلْق في منهج الخالق عز وجل. اهـ.
|